بيتنا الجديد

   كدأْب كثير من العائلات الباحثة عن الدار الفسيحة ذات الطراز العصري الراقي قررت والدتي – حفظها الله – أن نشيد داراً جديدة لننتقل إليها وننعم بما اقترحته من تصميم رائع لها، استغرق تجهيز هذه الدار عامين ونيف، وانتقلنا إليها منذ ما يقارب السبعة أشهر، للوهلة الأولى غمرتنا سعادة لا توصف فكل ما بالدار ينم عن الأناقة والجمال؛ الغُرف بمساحاتها الشاسعة، تناسق ألوان الديكور، الأثاث الذي تم انتقاؤه بعناية خاصة توافق ذوق كل منا، الاستقبال، المطابخ، الحديقة… إلخ.

 في أيامنا الأولى بسكننا الجديد كنّا كالأطفال الذين يبهرهم كل جديد فيحرصون عليه لبرهة من الوقت وما أن يخفت بريقه حتى يتبرؤون منه بحثاً عن جديد آخر.

     لسنا بالمدليين ـ والعياذ بالله ـ لكن يُمكن القول بأن نظرتنا للأمرِ كانت مادية بحتة؛ وَضَعنا في اعتبارنا كل شئ إلا الألفة ودفء العلاقات الإنسانية التي يمثلها الجار والمكان! فنسينا وصية جدتنا “الجار قبل الدار”.

 سبعة أشهر ونحن بهذا المكان الموحش رغم الحركة الدؤوبة بالشوارع الرئيسة، وأصوات أبواق السيارات وصرير كوابحها الذي يقلق نومنا بالساعات المتأخرة من الليل!

تمنينا أن يطرقنا طارقٌ ولو من بابِ التسول! أصبحت مواصفات دارنا نقمة بعد أن كنّا نراها نعمة ، أصبح كلَّ منا منكفئ على جهاز أصم يبحث عن ألفة زائفة من خلال هذه التقنية اللعينة، لا أبالغ إن قلت بأننا فقدنا حتى شهيتنا للطعام.

 الحي يمكن أن تصفه بالراقي الفارِه، لكن إلى جانب ذلك لن تتورع من وصفه بـ “امتداد المحيط المتجمد الشمالي” من فرطِ برودته الصقيعية ـ معنويًا ـ فكل من وما فيه لا يوحي بالحياة؛ أبواب كادت أن تصدأ من فرط عدم فتحها، السيارات القابعة أمام المنازل تشعرك بأنها مصابة بشلل كامل كأصحابها، وأصبحت من الأماني العزيزة التي باتت تداعب خيالنا: رؤية طفل صغير يطل من نافذة إحدى البنايات، أو حتى عاملة منزلية بيدها كيس قمامة تهم برميه في حاوية النفايات!

     منذ أن انتقلنا إلى هذا المكان الصقيعي وأنا اتساءل باستمرار: هل تغيرنا أم تغير الزمن؟ وكيف يتغير الزمن ونحن من يصنع التغيير؟ ما بالنا أصبحنا كالغرباء؟ أين الحميمية التي كانت تربطنا؟ الاحتفاء بالجار الجديد؟ أين الخلل؟ هل شغلتنا الحياة إلى الحد الذي ننسى فيه نهج حبيبنا المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي كاد أن يورث الجار من فرط وصيته به؟ هل نسينا قيمنا وعاداتنا وتقاليدنا؟ ماذا دهانا؟

    منذ الشهر الثاني لإقامتنا هنا أصبحنا كلما استبد بِنَا الحنين إلى لحظة دفء هرعنا إلى دارنا القديمة؛ حيث الضوضاء “الغالية ” وصديقات أمي الجميلات، إلى “أم نواف” تلك الستينية صاحبة أكبر قناعات منافية للمنطق، إلى أم فهد التي قاتلت من أجل استرداد كليتها التي منحتها لزوجها الذي كافأها بضُرّة، إلى الفلسطينية الحسناء التى وضعت شبابها لتسعيني لعبت معه دور الممرضة لا الزوجة من أجل الأمان المعنوي والمادي والتي ما زالت تبتسم برضا، إلى صديقات مقاعد الدراسة اللاتي تزوجن وقرنَ في بيوتهن ولم تلههن الحياة عنا، إلى ثلة المتقاعدات صديقات والدتي اللاتي أدّين رسالتهن في الحياة وتفرغن للحياة الاجتماعية، ولا أغالي إن قلت: وإلى الباكستاني الذي شاخ في دهاليز “السوبر ماركت” المقابل لدرانا القديم.

    بحكم مرافقتي اللصيقة لوالدتي لم يَخف عليَّ شعورها بالذنب كلما نظرت في عيوننا التي تلاحقها بنظراتِ العتابِ ولسانِ حالنا القائل: “الله يسامحك على فعلتك”، كما لا تخفى عليَّ نظرات الشماتة التي تطلقها عيون والدي الصامتة كلما تزمرنا من وحشة المكان؛ فقد كان رافضاً لفكرة انتقالنا ،خاصة وأن سكننا القديم كان يعني له الكثير فقد شيده في ريعان شبابه بجهد فردي ينم عن الكثير من الصلابة والاعتداد بالنفس والعناد في رفض معاونة والديه.

    لقننا هذا المكان درسًا قاسيًا إذ دق في رؤوسنا ناقوس خطر مزعج بأن علينا أن نعيد النظر في علاقاتنا الإنسانية بشكل عام، وأن نحاول – ولو بجهد المُقِل – أن ننقذ ما يمكن إنقاذه بالمبادرة من جانبنا في الإبقاء على جمالياتنا كعرب مسلمين ، بالأمس قرّرت والدتي أن نضع جدول زيارات لكل جيراننا بصرف النظر عن ترجمتهم لهذه المبادرة، وأن نتحمّل تبعاتها مهما كان شكلها، لكن واجهتنا مشكلة حقيقية؛ ألا وهي كيف يتسنى لنا الاستئذان منهم لتحديد موعد مناسب لهذه الزيارات؟!

ولأننا ممن يهمهم الأمر؛ فما زال البحث جاريًا عن وسيلة لإبلاغهم.

قبس الحربي – طالبة الدراسات العليا بجامعة الملك عبدالعزيز بجدة

قصص سابقة للكاتية:
– ذكريات جارتنا

bd6ec8cd-22fa-45c8-a4ba-9e7aace273e9

 

2 تعليق على “بيتنا الجديد

احمد علي الشيخ

ليست مثل الكل لها طعم ونكهة لم اتذوقها الا في كتاباتها حفظها الله

متابع

الاخت الكريمة لايزال قلمك السيال ينثر زهورا ويرسم حروفا من الابداع ويبدو أنه لايزال في جعبتك الكثير . فهنيئا لنا بقلمك المبدع .
أما موضوع العلاقات الانسانية بشكل عام والعلاقات بين الجيران فالجميع يبكي على أيام ذهبت وذهب معها كل ذلك الحب وتلك المعاني الجميلة لحقوق الحيران وقوة الترابط بينهم .
لكنها المدنية الحديثة ورقي المعيشة أدى لاستغناء الناس عن بعضهم البعض فأصابها ذلك الفتور . لكن بمقدورنا أن نعيد الدفء لتلك العلاقات وأن نكون مبادرين كما فعلت والدتكم الكريمة ! أما الحل فاقترح :
تسوون حفلة وتعزمونهم ويتم التعارف !

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *