خطيب الحرم المكي: الشريعة تشددت بشأن “الاستدانة” لحفظ الحقوق

أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور خالد بن علي الغامدي المسلمين بتقوى الله ومراقبته في السر والعلانية.

وقال في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم في المسجد الحرام: الدواوين عند الله في يوم القيامة ثلاثة، فديوان لا يغفره الله أبداً وهو الشرك, وديوان لا يعبأ الله به وهو ظلم العبد نفسه فيما بينه وبين ربه, وديوان لا يترك الله منه شيئاً أبداً، وهو ما يكون بين العباد من حقوق وتظالم, فهذا الديوان لا يتركه الله حتى يقتصَّ للعباد من أنفسهم فيأخذ لكل ذي حق حقه, بل حتى البهائم لا يجعلها الله تراباً حتى يقتصَّ للشاة الجلحاء من الشاة القرناء, وهذا أمر جلل يخاف منه المسلم الصادق فيحرص على أن يتحلل في هذه الدنيا من حقوق العباد فيخرج منها وهو خفيف الظهر من حقوق الناس وأعراضهم, خميص البطن من أموالهم.

وأضاف: هذا وإن من أعظم مجالات حقوق العباد التي يحصل فيها كثير من التظالم والتفريط مجال الديون والاستدانة, تلكم القضية التي انتشرت وفشت في المجتمعات المسلمة وغيرها, (وكثيراً ما نجد الناس إما دائنين أو مدينين)، مما يتطلب وقفة صادقة عند هذا الأمر توجيها وإرشاداً ونصحاً وتذكيراً, إن كثيراً من الناس أسرفوا على أنفسهم بفتح باب الدين إسرافاً مرهقاً وأسرعوا في أمرٍ كانت لهم فيه أناة, ومع سهولة إجراءات الاقتراض أقدم البعض عليه بلا روية ولا تفكير مدروس, ولا معرفة شرعية بأحكام وآداب الدين وتساهلوا في ذلك حتى ورطوا أنفسهم في ديون وحقوق كانوا في سلامة منها وعافية.

وأردف: الواجب على المسلم أن يحرص على ألا يتحمل في ذمته شيئاً من أموال الناس وحقوقهم لأن حقوق العباد مبنية على المقاصة والمشاحة والمقاضاة, ولو نجا عبد من المحاسبة في الدنيا فلن ينجو من محاسبة الملك العدل في الآخرة, وسيقتص الله من كل ظالم ومفرط في حقوق الناس، وسيُرفع لكل غادر لواءٌ يوم القيامة يقال هذه غدرة فلان بفلان.

وتابع: شأن الدين عند الله شأن عظيم فقد أنزل فيه سبحانه أطول آية في القرآن وهي آية الدين في أواخر سورة البقرة وثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان كثيراً ما يتعوذ بالله من ظلع الدين وقهر الرجال ومن المأثم المغرم, وثبت في سند أحمد (سبحان الله, ماذا أُنزل من التشديد في الدين؟ والذي نفسي بيده لو أن رجلاً قتل في سبيل الله ثم أحي ثم قتل ثم أحي ثم قتل وعليه دين ما دخل الجنة حتى يقضى عنه دينه)، وفي المسند أن النبي صلى الله عليه وسلم امتنع عن الصلاة على جنازة رجل ديون في دينارين حتى تكفل أبو قتادة بسدادها, ثم لما قضاها أبو قتادة قال له النبي صلى الله عليه وسلم: (الآن بُّردت عليه جلده) وتوفي أحد الصحابة وعليه دين فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأخيه: (إن أخاك محبوس بدينه فاقض عنه دينه) وثبت عند أبي داوود والحاكم (من مات وعليه دين فليس بالدينار والدرهم ولكنه بالحسنات والسيئات) والشهيد في سبيل الله يغفر له كل ذنب إلا الدين كما في صحيح مسلم .

وقال “الغامدي”: ما شددت الشريعة في أمر الدين والاستدانة إلا لحفظ مصالح الناس وحفظ حقوقهم المبنية على حفظ الضرورات الخمس المشهورة ومنها حفظ المال, ثم حتى لا يصبح أفراد المجتمع مرتهنين لغيرهم قد غُلت أيديهم إلى أعناقهم بديونهم وفي ذلك ما لا يخفى من الآثار السلبية والمفاسد على الأفراد والمجتمعات, فقد يقع المستدين في الخوف وعدم الشعور بالأمن النفسي خاصة إذا لقي غريمه وحل وقت السداد, وهذا مصداق لقول النبي صلى الله عليه وسلم، في السند (لا تخيفوا أنفسكم بالدين) ألا تستدينوا فتخيفوا أنفسكم بتبعات الدين وأثاره وقد يلجأ المستدين الى الكذب وإخلاف الوعد والتهرب من مواجهة غريمه أو التحايل والمخادعة لإثبات إعساره, وفي صحيح البخاري (إن الرجل إذا غرم – يعني استدان – حدث فكذب ووعد فأخلف) وقد يذهب جزء كبير من مرتبه في قضاء الديون فيضطر للاستدانة مرة أخرى ويبقى هكذا في دوامة الدين وفي هذا إذلال لنفسه والمؤمن لا ينبغي له أن يذل نفسه, وكثير من المديونين يقعون في الهم والغم والقلق وقد يمرض البعض ويفقد صحته وقد تفوته الطاعات والقربات بسبب انشغال عقولهم بالدين وكرباته ومطالبات الناس, وقد قال بعض السلف (ما دخل هم الدين قلباً إلا ذهب من العقل مالا يعود إليه).

وأضاف: الدين هم بالليل وذل بالنهار ولا هم إلا هم الدين, وقد قال عمر رضي الله عنه: (إياكم والدين فإن أوله هم وآخره حرب) ووجه كونه حرباً أن التفريط في ديون الناس من أكبر أسباب الهجران والقطيعة والخصومة بين الأقارب والأصدقاء, وقد يصل الأمر للشكاوي في المحاكم مما يوقع المرء في حرج شديد وألم نفسي عميق.

وأردف: الواجب على المسلم أن يتعفف عن أموال الناس وألا يفتح على نفسه باب الدين حتى ينجو من تبعاته وآثاره في الدنيا والآخرة, وأن يعود نفسه وأهل بيته على القناعة والصبر والرضا بما قسمه الله وقدره من الأرزاق ومتع الحياة, وما أعظم بركة الاقتصاد والتوسط والاعتدال في النفقة وأن يحذر المسلم من آفة التبذير والإسراف في إنفاق المال فيما لا طائل تحته مفاخرةً ومباهاة ومسايرةً للواقع ومستجداته فإن ذلك من أكثر أسباب التورط في الديون فشواً وشيوعاً.

وتابع: الشريعة لم تمنع من الاستدانة والاستعانة بمال الغير مطلقاً ولكنها أرشدت إلى جملة من الوصايا النافعة وفي هذا الباب ينجو بها المسلم من أثار الدين السيئة وتبعاته الأليمة, فالواجب على المسلم ألا يستدين إلا في أمر مباح وهو مضطر إليه ومحتاج إلى تصريف أحواله به, ويبتعد عن الاستدانة من أجل أمور لا يحتاج إليها من الكماليات والطرائف أو فيما حرم الله من المعاصي, وعليه أن يعقد النية والعزم على أن يرد الدين إلى أهله لأن النية الجازمة لرد الدين وكونه في أمر مباح من أهم أسباب إعانة الله للمستدين كما ثبت عند ابن ماجه (إن الله مع الدائن حتى يقضي دينه ما لم يكن دينه فيما يكره الله) وقال (ما من أحد يدان ديناً يعلم الله منه أنه يريد قضائه إلا أداه الله عنه).

وقال “الغامدي”: إذا اضطر المسلم إلى الدين فليكن بطريقة مباحة لا شبهة فيها ولا غش ولا تحايل على الربا, ومن استدان بطريقة محرمة فإنه لا يوفق ولا يعان وكان كالمستجير من الرمضاء بالنار, وليحرص الدائن والمستدين على توثيق الدين وكتابته والإشهاد عليه كما أمر الله في آية الدين, ولا يتحرجا من كتابة الدين ولا يسأما من توثيقه صغيراً كان أو كبيراً فهو أقسط عند الله وأقوم وأوثق.

وأضاف: ليحرص المستدين على رد الدين إذا حل الأجل وأن يبرئ ذمته بسرعة فقد ثبت (إن خيار عباد الله الموفون المطيبون) الطبراني وأبو نعيم، يعني الذين يوفون بالحقوق ويؤدونها, ولا يجوز له أن يماطل أو يسوف إذا كان عنده مال يكفي للسداد فإن في المماطلة أذية للدائن الذي كان ينبغي أن يشكر ويكافأ برد ماله لا أن يعامل بالمماطلة والتحايل التي هي في الحقيقة خسة طبع ودناءة نفس, وهي من الظلم الذي لا يرضاه الله كما ثبت في الصحيح (مطل الغني ظلم) وفي المسند (إنما جزاء السلف الحمد والوفاء) يعني أن شكر الدائن والمقترض يكون بحمده والثناء عليه وبسرعة والوفاء له والسداد .

وأردف: من اضطر للاستدانة لحاجتة مباحة بطريقة شرعية وعقد العزم على رد حقوق الناس فليبشر بالعون والتوفيق من الله, فالله معه حتى يقضي دينه, وعليه أن يكثر من الاستغفار وأن يلح على الله بالدعاء أن يعينه على قضاء الدين, وأن يلظ بالدعاء العظيم الذي علمه النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب كما في المسند حيث قال له: آلا اعلمك كلمات لو كان عليك مثل جبل صبير دينا أداه الله عنك؟ قل: اللهم اكفني بحلالك عن حرامك واغنني بفضلك عمن سواك), وقد رغب الرسول صلى الله عليه وسلم المسلم إذا نزلت به ضائقة أو كرب أن ينزلها بالله فيتحملها الله عنه وهو الغني القادر فما أسرع أن تنكشف كربته ويأتيه الله بالفرج, فقد ثبت عنه فالترمذي (من نزلت به فاقة فأنزلها بالناس لم تُسد فاقته, ومن نزلت به فاقة فأنزلها بالله فيوشك الله له برزق عاجل أو آجل).

وتابع: يجب على المستدين أن يدبر معيشته ويقتصد في نفقته ويحسن تصريف أموره بحكمة وعقل ويقدم الأهم فالأهم حتى يتمكن من سداد ديونه ورد حقوق الناس ففي صحيح البخاري من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها اتلفه الله.

وقال “الغامدي”: من محاسن الشريعة ما جاءت به من الآداب والأحكام لحفظ حقوق الناس وأموالهم, وكما أنها أوصت المستدين بوصايا نافعة ليبارك الله له وينتفع بدينه, فكذلك ندبت الشريعة وحثت من كان ذا مال وافر وكان مقتدرًا ألا يمنع الناس من فضل الله الذي عنده إذا جاءه مكروب ذو حاجة للاستدانة, لأن تفريج كربات الناس وإدخال السرور عليه ونفعهم من أجل القربات عند الله, والله في عون العبد ما دام العبد في عون إخوانه, وهو من صور التكافل الاجتماعي والتعاون على البر والتقوى وعلى الدائن أن يحرص على أن يحسن نيته في إقراض المحتاجين ويقصد وجه الله لا رياء ولا سمعة (إنما نطعمكم لوجه لله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا).

وأضاف: يجب أن يصبر الدائن على المستدينين ولا يمن عليهم ولا يفخر عليهم, وينبغي أن يمهلهم ولا يؤذيهم بالمطالبة والمداعاة إذا لم يظهر منهم مماطلة أو تحايل, ويجمل بالدائن أن ينظرهم إذا طلبوا الإنظار لعسرهم وحاجتهم, إذا سمحت نفسه فسامحهم في ديونهم أو وضع عنهم فهذا هو الفضل والكرم والشرف, فقد ثبت في صحيح مسلم (من أنظر معسراً – أي أمهله ولم يعجل عليه, أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله) وفي مسند أحمد (من أنظر معسراً فله بكل يوم مثله صدقة) وفي رواية (مثليه) يعني يكون للدائن بمثل مقدار الدين كل يوم صدقه إذا أمهله وأنظره, وفي الصحيحين أن رجلاً كان يداين الناس فإذا جاءه رجل معسر قال لفتيانه: تجاوزوا عنه لعل الله يتجاوز عنا, قال: فلقي الله فتجاوز عنه.

وأردف: لقد رغبت الشريعة في أن يقوم الموسرون وأهل الفضل بقضاء ديون المحتاجين والمعوزين ممن حل أجل ديونهم ولا يقدرون على السداد أو المأسورين بديونهم, سواء كان ذلك من زكواتهم أو غيرها, وقد جعل الله من مصارف الزكاة إعطاءها للغارمين, خاصة إذا كان المدين والدًا أو ولداً, فإن قضاء الديون عن الوالدين أو الأبناء أو أحد الزوجين عن الآخر فيه أجران: أجر القرابة والصلة وأجل تفريج الكربات, ومهما فعل الابن مع أبويه فلن يوفيهما شكراً ولن يبلغ جزاءهما فقد ثبت في صحصح مسلم (لا يجزي ولد والده إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه) وثبت وعند البيهقي في الشُعب أن ابن عمر رأى رجلاً يطوف بالبيت وهو يحمل أمه على ظهره, فقال: يا ابن عمر أتراني جزيتها؟ قال: لا, ولا بزفرة واحدة) يعني من زفراتها حال الولادة .

وحذر إمام وخطيب المسجد الحرام الدائن من أن يطلب زيادة على رأس مال الدين عند إقراضه للناس فإن ذلك هو ربا الجاهلية, وليحذر أيضاً من أجر أو منفعة تحصل له من المستدين بسبب الدين لأن ذلك يدخل في القاعدة المشهورة .(كل قرض جر نفعا فهو ربا), وقد كان كثير من السلف أذا أقرضوا رجلاً لا يقبلون منه أي شيء حتى الدعوة إلى الطعام حتى يرد إليهم ديونهم خشية أن يقعوا في النفع الذي جره القرض, وهذا من تمام ورعهم وخشيتهم, وقد قال ابن عباس “إذا أسلفت رجلاً سلفاً فلا تقبل منه هدية كراع ولا عارية ركوب دابة”, ونقل ابن المنذر إجماع العلماء على ذلك, فما أحرانا أن نتأدب بآداب الشرع وتعاليمه، ففيها والله الغناء والكفاية والهداية والصلاح.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *