“البلادي” مهاجراً من خليص إلى مكة

يقول “عاتق بن غيث البلادي” في مذكراته :

(( كان والدي كبير القوم ، وكان له مجلس كل ليلة يجتمع فيه قومه ، كان يشبه ندوة أدبية .

وكان قد حارب في الثورة العربية ضد الترك ، وكان يتنقل وقومه فيما بين محافظة خليص وحدود الحرم المكي الشمالية ، وإلى وادي الفرع شمالاً.

نشأت في البادية في طفولة تختلف – آنذاك – كثيراً عن طفولة الحاضرة .
رعيت البهم والغنم والإبل ، وركبت البعير والحمار ! ورقيت النخلة ، مشيت على قدمي ( وأنا في الخامسة ) نحو أربعمائة كيل ، قارعت الذئاب ، ومشيت بمفردي نحو (120) كيلاً ليلاً ونهاراً.

وفي الثانية عشر من عمري توفي والدي ، فنزلت مكة المكرمة مع أخي الأكبر مني , وكان ذلك سنة 1364هـ .

كانت في رحلتنا إلى سيدة المدائن مواقف طريفة ! وإن كانت لا ترقى إلى المستوى الأدبي إلا أنها في ذلك الزمن لغلامين يتيمين تلفت النظر !

ففي اليوم الثالث وصلنا إلى محطة الجموم من وادي فاطمة (صارت اليوم مدينة ) فرأينا تجمعات كثيفة ، ولكن ما كان في شئ يعيقنا عن هدفنا .

قبل دخولنا في تلك المعمعة اعترضنا رجل من عينة تعرفها الناس اليوم , قال : (تبون تكتبون ؟) قال أخي : ويش نكتب ؟! , قال : الحكومة أخرجت صدقة للناس ، خبز.

الحقيقة كانت الناس في مجاعة قاسية .

قال أخي : ( طيب ) . فكتب لنا اسمينا في ورقة وذهب بنا ، وقال : خلوكم بعيد هذا الشاووش يضرب ! فتقدم إلى ذلك الشاووش بالورقة في يده ، ورفع يديه فوق رأسه ثم وضعهما على صدره في تذلل ظاهر ، فظهرت من الشاووش المسالمة فمد يده وأخذ الورقة ، وناولها شخصاً آخر جاء لنا بأربعة أرغفة .

فخرجنا ، قال الرجل : ( تبون منزل ؟ ) قال أخي : ( لا حنا رايحين لمكة ) قال : أجل أشتري منكم هذه الورقة ؟ ، قال أخي : ( بكم ) قال : ( بأربعة ريال ! ) قال أخي : ( طيب ) ، فأخرج الرجل من حسكله كيساً فيه ريالات فضية ( لم يكن النقد الورقي معروفاً ) فعد لأخي أربعة ريالات .

ثم أخرج مرسمة خشبية وبلها بريقه ، وغطها في قالب من النيلة ،  و وضع صفراً قدام رقم (2) ! فصار (20) ! قلت لأخي : ( أنظر كيف سوى الثنين عشرين ) !  ، قال : ( مالنا شغل ) ، قال المحتال : ( هذا فعل الشطار)! (( للفساد جذوره التاريخية !!))

غابت الشمس مع وصولنا إلى أم المؤمنين رضي الله عنها ، وما أدراك ما أم المؤمنين ؟!

إنه ضريح السيدة ميمونة بنت الحارث ، إحدى زوجات رسول الله صلى الله عليه وسلم .

كان هناك تجمع ولكن ليس كالذي قبله ، فهنا تجمع تجاري ، فهذا مقهى ، وهذه بسطة ، وآخر يدف عربية فيها بضاعة …

لا أذكر ما عملنا ؟! إلاّ أنّا – من شدة تعبنا – انحزنا إلى سند الجبل ، وبحثنا لنا مكاناً لننام فيه ، واستغرقنا فيه ….

استغرقنا في نومنا وما راعني إلاّ صوت أخي عطية الله ، فنهضت واقفاً ، فإذا بشخص مقف ، فأوطأت إلى حجر فقذفته به ، فسمعته يقول : (آه) ! فسألت أخي ، فقال : الحرامي
يبي ياخذ الحسكل !.

كان الناس آنذاك كل يحتزم بحزام في وسطه ، وكل إنسان يحمل سكيناً في ذلك الحزام ، فكان بإمكان هذا الحرامي أن يستل أية سكين ويقطع بها عصم الحسكل فلا يشعر به أحد ، ولكن يبدو أنه أراد الحسكل سالماً.

وفي الصباح رأينا نقط دم على أثر ذلك الحرامي ، يظهر من ذلك أن الحجر أصاب رأسه!.)).

 

مهدي نفاع القرشي 

مقالات سابقة للكاتب

5 تعليق على ““البلادي” مهاجراً من خليص إلى مكة

متابع

حديث شيق !
وقصص من تاريخ الاجداد رحم الله الشيخ الفاضل رحمة واسعة . فعلا لم ينصفه الاعلام . سيرة عطرة لرجل ومؤرخ عظيم . المسؤولية كبيرة على أهله وأفراد قبيلته في نشر كتبه وسيرته .
شكرا لكاتبنا الرائع رفع الله قدرك استاذنا الفاضل ننتظر المزيد من سيرة هذا الرجل المؤرخ .

ابن بذال

مقال جميل للاستاذ مهدي وهو يروي للقراء الكرام ما كتبه المؤرخ عاتق بن غيث البلادي عن رحلته الى مكة يوم ان كان يافعا بحثا عن الرزق بصحبة اخيه الاكبر وفي الجموم كان خبازا حكوميا يقوم يوميا على تجهيز الخبز في تلك السنوات لسد بعض الخاجة للناس ايام المجاعة التي نشا عنها هجرات جماعية للكثير من الناس صوب مكة من نواحي وادي الصفراء وغيره من الاودية .
وقصة طريفة في وادي سرف حصلت على هامش رحلة مؤرخنا وأخيه عطية الله رحمهما الله في طرد حرامي الحسكل ليلا وشجاعة عاتق في رميه بالحجر وقد اصاب راس لص في سرف.
ابا رعد طاب مداد قلمك فلازلنا بشوق لمعرفة المزيد عن الاعمال التي حصل عليها مؤرخنا بالاجر اليومي في مكة بلد الامن والامان. يارعاك الله .

متعب الصعيدي

حياة قاسية صعبة لكنها خرجت لنا عباقرة ومفكرين وأدباء
أما حياة الترف والرفاهية وما خرجت لنا إلا تنابلة :(
شكراً مهدي

عبدالسلام

شكراً أخ مهدي على هذا السرد القصصي الجميل
قصص الأولين ما ينمل منها وشي جميل أن يقرأها الجيل الحالي ليتعلم ويستفيد منها دروس في الحياة

محمد البشري

مقال ممتع جميل
شكراً لقلم الكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *