يقول علماء النفس بأن الانسان يتحدث مع نفسه بخمسة آلاف كلمة في اليوم الواحد , ولكن ما حدث معي هو أن هذا العدد من الكلمات كان تكراراً لمفردة وحيدة هي ( القدس , القدس , القدس ) .
لم أكن أعلم أنها تعني لي وللكثير من حولي كل هذا الانتماء , الكل يتحدث بحرقة حتى من ليس له علاقة بأي شيء في أي شيء ,
بالنسبة لي فضلت الصمت والتوجه للمنزل لعل أجد في المنام ملاذا , بعد فترة وجيزة فزعت من النوم وأنا أتذكر عبارة لمحمود درويش يقول فيها :
( يحاصرني في منامي كلامي , كلامي الذي لم أقله ).
لابد أن أتحدث لابد أن أعرف أكثر عن القدس التي احتلت قلبي وتشكلت بأقصاه ,فهي للأسف لم تعد تتصدر العناوين ولا المنابر , توجهت الى المكتبة قبل أن تشرع أبوابها , دخلت مضطربا باحثا عن نفسي لعل أجدني , بحثت بين أشباح وأشباه الكتب ,لم أجد سوى كتيبا واحدا عن شاعرية فلسطين , حينها أدركت أن سبب التهويد هو تأخرنا لا تقدمهم .
لم أشأ أن أترك قلبي وحيدا , قررت أن أسري بمخيلتي إلى أرض الإسراء ومهد الأنبياء ,
ها أنا ذا أجوب ساحات المسجد الأقصى ثائرا حائرا معرفا بتاريخي الطارف والتليد , داخلا المسجد من باب (المغاربة ) الباب الذي دخل منه الرسول عليه السلام , على يميني الجامع القبلي أردت الدخول لعل أجد شيئا من أثر عمر رضي الله عنه واذا به مغلقا , هممت بالاتجاه إلى الزاوية إلى المصلى المرواني تحت الأرض , وفي الطريق بين المصليين رأيت ” نهرا يبكي ” وهيهات للنهر أن يجف , رأيت أُماً تجأر بالدعاء بعد أن فقدت خمسة من أبناءها , حدث تبيض منه الأعين وتتفتت لأجله القلوب , بعدها بقليل انفجار مهيب , أشلاء تطايرت على عنقي لطختني بدماء طاهرة , وشيء من بقايا كرسي متفحم , وعمامة بيضاء أعرفها جيدا , إنها عمامة الشيخ أحمد ياسين رحمه الله ,
وهناك طفل يستجير إنه ( الدرة ), وخصمه جندي صهيوني يحتمي خلف شجرة الغرقد مطلقا عليه وابلاً من الرصاص .
شاب دمعي واحدودب عقلي واحتضر حرفي من هول ما رأيت , هرعت مسرعا باتجاه قبة الصخرة وإذ بالأرض تهتز من تحتي , لابد من أنه صوت معداتهم التي يحفرون بها للبحث عن معبدهم المزعوم ( هيكل سليمان ) , حينها احتضنت الأرض بقوة خشية أن تتصدع فتتهاوى جدران الأقصى , وعانقت السماء بالدعاء راجيا أن يلبي ربي النداء.
تمعنت قليلا في قبة الصخرة واذ بسورة يس منقوشة بالكامل عليها , متأملا قوله تعالى:((إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ)).
” دوما ما كنت أردد بأننا جيل يتمسك بنا الأمل لكننا كثيرا ما نخذله ” , لكن بعد هذه الآية عاد إلي رشدي , وبدأت أتجول بين أبواب الأقصى الخمسة عشر وكلي ثقة بالمولى عز وجل .
توجهت إلى (حائط البراق) المسمى نسبة إلى دابة الرسول عليه السلام , الذي يزعم اليهود بأن اسمه (حائط المبكى ) وها هم يتلون صلواتهم عنده ويودعون أمانيهم بين ثقوبه ,اقتربت منهم ونقشت على الحائط ، قوله تعالى: ((وَقَضَيْنَا إِلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا ))
اختلف العلماء هل هذا العلو هو العلو الأول أم العلو الثاني لبني إسرائيل , المؤكد من هذه الآية أن علوهم وفسادهم في الأرض أمر يقين .
وأردت أن أوصل الرسالة بشكل أوضح لكي لا تحرف , فنقشت قوله تعالى: (( مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ )).
مع العلم أن البعض من زوار الحائط وحاخامات اليهود , لديهم قناعة بأنه لا يحق لهم أن يسكنوا القدس إلا بعد نزول المسيح عليه السلام كما جاء في التوراة حسب رواياتهم .
توجهت إلى باب المرحوم الملك فيصل , ونقشت قوله تعالى الموجه الى المسلمين :
((عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا)).
يقول أهل العلم أن الرحمة المقصود بها هزيمة اليهود , ومتى ما عاد المسلمون إلى طريق الحق عدنا إلى ما عودناهم عليه من النصر والتمكين .
من بين القباب الثلاثة عشر للمسجد الأقصى ,اعتليت قبة الصخرة ونقشت على هلالها , قوله تعالى : (( وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ )).
بعدها عدت إلى حيث أكون , وأرسلت رسالة إلى أجمل من احتل قلبي (القدس) قلت له فيها :
” لقد كنت حلما كفيفا بالنسبة لي , والآن أصبحت حلما يُحلم به “.
يقول نزار :
“عادية تبدو لك الأشياء , سطحية تبدو لك الأشياء ,
لكن ما يهمني أنت مع الأشياء , وأنت في الأشياء” .
مقالات سابقة للكاتب