من سرق المصحف؟

صعد الإمام مالك بن دينار ذات يوم المنبر خطيباً في الناس، فانفعلوا وتفاعلوا وبكوا وتباكوا ثم صلى بالناس والتفت يمنة ويسرة بحثاً عن مصحفه فلم يجده؛ فحدثهم عن عقوبة السرقة والمال الحرام فزاد بكاؤهم ونشيجهم فتعجب وقال: كلكم يبكي، فمن سرق المصحف؟!

تمور المجالس موراً بكل أنواع التنظير والأحاديث في أمور العامة والتي ما إن ينتهي نوع منها إلا وأتى يهرول شبيهه أو قرينه أو الذي لا صلة له به، في سباق محموم حول من يُنظّر أكثر وينتقد أشد، في مشهد بكائي متشائم، والكل يتهم الكل، دون أن يعي أنه جزء من المشكلة!

نظرة فاحصة لوسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي تؤكد ما ذهبت إليه آنفاً، فالكل أصبح ينتقد الكل وأصبح البعض يتقمص دور المسؤول المصلح ويبكي ويتباكى على مآلات حالنا في التعليم والرياضة والسياسة والإدارة والخدمات وكل تفاصيل حياتنا، وفجأةً أصبحنا مجتمعاً هلامياً هشاً لا يعي مصالحه!

نحن في وقت كثر فيه المتعالمون الذين يتكلمون في كل فن، حتى الفتوى الشرعية تجاسروا على اقتحام أسوارها المنيعة وتطاولوا على أربابها بلا علم ولا كتاب منير، ولم يحفظوا لصاحب علم منزلته ولا لصاحب جاه جاهه، فجمعوا حشفاً وسوء كيل.

مع إقرارنا بأهمية الإصلاح الهادف والنقد البناء الهاديء بعيداً عن التشنج وإلقاء الكلام على عواهنه ورمي التهم  جزافاً، الجميع مع وسائل التواصل أصبح مُنظرّاً وناقداً بوعي ودون وعي في أحيان كثيرة، والهدف هو الظهور والشهرة ليس إلا (مع استثناءات قليلة للمخلصين أصحاب الكفاءة والأمانة).

إن لبعض الصحف (ورقية، إلكترونية)، دور سلبي جداً في هذا الشأن، فهي تبحث عن الإثارة وعداد الزيارات الذي يسيل لعاب المعلنين، لذا تعطي بعضاً من هذه النوعية الفرصة للتمدد على صفحاتها والإمساك بزمام الكلمة وإطلاقها كالرصاصة الطائشة تصيب المجتمع في مقتل وتهز ثوابته الشرعية والعرفية، وهذا مسلك خطير يجرؤ من خلاله أنصاف المتعلمين وبقايا عهود الأفكار الدخيلة على مجتمعنا، والظهور بمظهر المصلحين وأصحاب الرؤية تدليساً وتمويهاً لتمرير أفكار قد عفا عليها الزمن وتخطاها وعي المجتمع علماً ونضجاً.

بسبب هؤلاء توارى كثير من أصحاب التخصص والكفاءة والأمانة عن الساحة؛ بسبب تزاحم غير الأكفاء (علماً وسلوكاً) وتصدرهم لكل شيء ساكناً كان أو متحركاً، وأصبح الجو ملوثاً بعبارات ومقولات تشمئز منها النفوس وتزكم منها الأنوف وتدع الحليم حيراناً بسبب رويبضات العصر واقتحامهم سياج العلم والتخصص؛ فاهتز جدار الثقة واختلط الحابل بالنابل وأصبح الكل يبكي ويتباكى، ونحن مرة أخرى نسأل مع الإمام مالك: من سرق المصحف؟

محمد سعيد الصحفي

مقالات سابقة للكاتب

9 تعليق على “من سرق المصحف؟

ابوعاصم

شكرا … أبا عمر
إياك أعني وأسمعي ياجارة !
وضعت النقاط على الحروف وما أكثر الذين عنيت انتشارا . يتطاول أحدهم على أهل العلم وفتاويهم ولربما تجده لم يحفظ حديثا واحد ! إنها أمانة الكلمة إن غابت عنهم يجب أن لاتغيب عن من يتحملون أمانة النشر . شكرا كاتبنا الموقر .

ابراهيم مهنا

ماأجمل ماقلت وصدقت أبا عمر
وياليت كل رويبضة يسكت فيغنم ومجتمعه منه يسلم
لقد رفعت وسائل التواصل أناسا ووضعت آخرين بمقاييس هلامية وفقاعات ملونه فتجاوزت الحدود فأجلست الجاهل مكان العالم وأصغت لقوله بإعجاب
فشكرا لك

متعب الصعيدي

أحسنت
للأسف نحن أمة ما تنعطى وجه !
لما أتيح لنا مجال من الحرية في التعبير استغليناه في المكائد الشخصية والتطاول على الرموز بغير دليل ولا بينة وأصبح الكل يفتي في كل المجالات وأخطرها الدين وأصبح هنالك تطاول على العلماء والدعاة وأهل الفضل والصلاح حتى قلت مكانتهم عند العامة.
وأصبح الشخص المتكيء على أريكته الذي لا يهش ولا ينش ينظر ويحاضر عن العلم والتطور والجودة في العمل ويقيم المسؤولين والموظفين وووو … الخ
مقال في الصميم وأتى في وقته تشكر عليه

محمد المعاطي- قديد

أعتقد أن هذه ظاهرة طبيعية وسرعان ما تزول فالغرب لم يصل ما وصل إليه من رقي وأدب واحترام في التعامل إلا بعد شوط طويل من الممارسات الخاطئة. الغثاء لا يستمر في الأعلى وقت طويل (وأما الزبد فيذهب جفاء) وستجدنا بعد فترة أصبحنا في مصاف الأمم الراقية بإذن الله.

أ.م.أبن عبدالله

كثر السرق فمن الذي لم يسرق ومن ذا الذي سرق ؟؟؟!!!
مقال رائع لكاتب ذو بصر وبصيره اوجز وأجزل وأبان واستبان واوضح وأجلى حال مجتمعاتنا ، وحال افرادها متعلم ومتعلمين وعامة ومتثقفين ، وحال وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي المتدنيه التى تبرز كل سخيف وتافه على حساب الفضيله ، انكار المنكر واظهار عدم الرضا عن سلوك عام في المجتمع له طرق واساليب شرعية يتم من خلالها ايصال النصح والمناصحة لولي الامر دون اثارة الرعاع وتخريب المجتمع وفيها حفظ حقوق الآخرين ، نعم انه زمن الرويبضة يتكلم في شان العامة كما اخبرنا رسول الله صل الله عليه وسلم ، ويحضرني مثل شعبي ينطبق على زماننا يقول (هذا الزمن زمن قوس ترتفع به الأذناب وتسقط الروس)
دمت متميز … أبا عمر

أ. عبدالرحيم نافع الصبحي

أحسنت أستاذنا الفاضل وكاتب الصحيفة المميز باختيار الموضوعات الأنسب..

هي كما قلت يا صاحبي؛ كثر حاطب الليل في الصحافة الإلكترونية أو الورقية لغياب الهدف وإذا وجد الهدف كان حبرًا على ورق، أو لبست لباسا لا يوراي عيبها ولكن الأمل بالقادم أجمل وبالتغيير للأفضل، متى قامت هذه الصحف بدورها في التنمية والتطوير وكانت قدوة لغيرها في بقاء الأثر وسمو الفكر..

شكرا لك أخي.. مقال جميل وأسلوبك كان أجمل

أحمد بن مهنا

من أجمل ما قرأت هذا الأسبوع معنى ومبنى ، وصدقت ، زمنُُ نطق في الرويبضات في أمر الخاصة ، وغيمت فيه منهم سحب غبراء على كثير من البقاع ، ولم يتنبهوا لعورات لايليق الحديث فيها الا لمثلهم ، بارك الله فيك ونفع بما كتبت.

محمد الرايقي

الأستاذ محمد الصحفي كعادته متزن في طرحه وفي تناوله للمواضيع فنجده لايبحث عن الإثارة بل يسعى لوضع النقط على الحروف بكل أدب واحترام .
لك خالص الود و الاحترام أستاذنا الكريم

وضاح

الاستاذ الفاضل ما اكتبه مجرد رأى قابل للخطأ
تمت السرقه في ظل غياب رقابة تبعتها غفوة ادت لسطوة فاسد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *