مغامرة الصمت ..

في بعض الأحيان يرغمك الوقت وتلح عليك الأحداث أن تلتزم الصمت وتظهر للناس أنك عييّ بليد لا تجيد الكتابة أو التعبير عما يدور حولك من أحداث بكل تفاصيلها ومنعرجاتها وشجونها .. وقد علمتني الأيام أنني إذا لم أجد من يقرأني ويفهم ما أخط وأسطر فلا جدوى من إرهاق الناس وإهدار الوقت فيما لا طائل منه ، والأفضل من ذلك هو أن تمزق قراطيسك وتكسر محبرتك ومرقمك وتتخذ زاوية قصية في مقابر الأفكار فتحفر عميقاً وتدفنها مع أفكارك وآرائك التي لاتصلح ولا تتماشى مع عصر أنت فيه غريب ..

أيها القارئون .. ما الفائدة أن نكتب لكم شيئاً لا نعتقده ولا نؤمن به ؟ .. نكتب فقط لمجاراة الأحداث مهما كانت غير مقنعة وتتسم بالغموض ومليئة بالطلاسم والألغاز ، فهل ترضون أن نغشكم ونخدعكم فإنا لا نرضى ذلك لكم أبداً ..

فالصمت في زمن الهراء والجدل العقيم فضيلة لأنك إن حاولت أن تتوغل في التاريخ بكل مافيه سواء مآسيه أو فضائله يتهمك البعض أنك حبيس لذلك الزمن الذي ولى وانقضى ، وليس من العقل والحكمة أن توقظ أجساداً وأفكاراً ومعتقدات قد رمت وبليت وأرواحاً آثرت سكون المقابر وأحبت الهدوء والسكينة إلى أن تنادى لفصل القضاء وأنت مطالب بتركها وما اختارت برغم علم منتقديك ومناوئيك أن أية أمة مهما بلغت من الرقي والتقدم والحضارة لا يمكن أن تنال ذلك إلا بالرجوع ولو بقدر يسير إلى الماضي وأخذ كل محاسنه ، فكم في الماضي من محاسن مهما حاولوا الانسلاخ منه فهو يظل منهم ومعهم وفيهم يجري في دمائهم وأوردتهم وإلا كان من الواجب أن نتخلى عن أسماء أجدادنا الملتصقة بنا والتي نتفاخر بها فنحن لسنا أبناء الحاضر فقط بل إن جذورنا لتمتد ضاربة في الماضي.

أما إذا حاولت الكتابة في أمور السياسة وما فيها من تقلبات وتضاريس ومنعرجات فحتماً لابد وأن تحاول أن تلمع بعض زجاج مبانيها المتسخ بالكذب وتمسح عن موائدها المستديرة أو المستطيلة أو أيا كان شكلها .. نعم تمسح عنها ما علق بها مما يعرفه كل ذي عقل وفهم حتى تكون كلماتك مقبولة مهما عارضت معتقدك وما تؤمن به في قرارة نفسك ، وأما مقولة ( أنا لا أكذب ولكن أتجمل ) إنما هي نابعة من وخزات الضمير ويحاول قائلها كتم أنفاس ضميره الذي يحاول الاستيقاظ.. فـ للسياسة مداخلها ومخارجها وشؤونها التي قد تحيرك وتجعل منك أضحوكة لو حاولت التعامل معها ..

وإذا أردت أن تكتب في الأدب والفن في زمن يكاد يخلو من المعاني الفاضلة لهذه العبارتين إلا ماندر ، فعليك أن تهبط إلى المستوى الذي يريده المجتمع الحديث والوسط الفني مهما كان الفن هابطاً ورخيصاً ويباع في سوق نخاسة الفن الهابط والفكر المنحرف الذي لا يستفيد منه سوى تجار النخاسة الهابطون الذين يقبلون بالرخيص التافه ليشبعوا أرواحهم وأحاسيسهم التي تعلقت بالمادة لأنه لم تبقى أحاسيس مرهفة وشعور يقظ يتذوق الجميل من الكلمات الصادقة التي تسير وتسيل روعة وجمالاً ..

حاول مرة أن تكتب عن بعض سلبيات مجتمعك الذي تعيش فيه فستجد من ينبري ويسل عليك سيف اللوم والانتقاد اللاذع بأنك تحاول تغيير سلوك قد تأصل وعادات أصبحت ربما تحاكي العبادات مهما كانت سيئة ، فهناك من يتقبلها بل ويستميت في الدفاع عنها بكل قواه ، وستوصف بأنك تعيش في المثالية التي عفى عليها الزمن ودفنت منذ وقت بعيد وأنت لا تزال تتغنى بها وتتمسك وتنافح عن أمر يجعلك رجعياً متأخراً عن ركب الحضارة ..

وأنا بحديثي هذا لست متشائماً أبداً ولا أعمم ، بل أعبر عن واقع معاش في بعض المجتمعات التي تتخذ من التقليد الأعمى نبراساً ومشعلاً تظن أنه سيهديها في ظلمات جحر لم تكن هي من حفرة بل اتباع وتقليد فحسب .. هذه حقيقة حتى ولو حاول البعض دس رأسه في الرمال بعض الأحيان استناداً وعملاً بالقاعدة الإنهزامية التي تقول (ننحني حتى تمر العاصفة من فوقنا بسلام ) ، فماذا إن لم تهدأ العاصفة وظلت ترعد وتزبد وتزمجر ولابد أن هؤلاء لا يضيرهم أن يظلوا منبطحين حتى يستمرؤا الانبطاح والانحناء فيتعايشوا معه وبه ويصبح سمة وصفة ملازمة لهم وملتصقة بهم ..

وفي النهاية هناك مبادئ لا يجب على المرء أن يتخلى عنها ولو في قرارة نفسه ومداخيل وخفايا ضميره ، والنفس الإنسانية السوية دائماً ما تحاول أن تعيش “مغامرة نبيلة” ، وتحب أن تخرج منتصرة منتشية جذلاً بما حباها الله من عزة وكرامة حتى وإن كانت هذه المغامرة هي الصمت والسكوت .

 

إبراهيم يحيى أبوليلى 

مقالات سابقة للكاتب

9 تعليق على “مغامرة الصمت ..

غير معروف

هذا حال الغرباء

وكم هيا جميلة هذه الغربة ….

ابو احمد

بنات افكارك تحير حتى ذو اللب

دمت ابا ليلى ودام قلمك ملهما لنا .

مصطفى محمد

هكذا هم الغرباء

وما أجملها من غربة ….

أبوعاصم

كاتبنا الموقر :
نقلة نوعية في طرحك تنم عن مخزون ثقافي خصب ! زادك الله علما . أتمنى أن تكون مقالاتك القادمة أقل سطوراً ! لاحرمنا الله اطلالتك الأسبوعية .

متعب الصعيدي

أحسنت أستاذي الكريم
الصمت حكمة في عصر أختزال الكلمة

عدنان هوساوي

أشاطر الأستاذ أبو عاصم في أشارته لطرحك ( بنقلة نوعية ) لقد أحسنت واجدت وافضت

وضاح

السلام عليكم ورحمه الله وبركاته
استاذنا الفاضل كما عهدناك دائما وابدا متالق ومبدع ومتميز وكما يقال ماتكتبه من كلمات تتحول الى ذوات انسانيه تستنهض الهمم الساكنه وترفدنا بالوعي فى زمن ضجيج الاصوات يبقى صوتك الصوت المرغوب فى سماعه استاذنا الفاضل من وجهه نظري القابله للخطاء اكثر من الصواب عندما يلتزم الصمت العقلاء عن الاحداث والوقائع والهموم والقضايا التى تهم الفرد والمجتع ويتخذون دور المتفرج ازاء ذالك فثمن هذا السكوت اعتلاء السفهاء المنابر ويتسيد الجهلاء المجالس وتنشط شياطين الانس لبث سمومهم فتغيب الرؤيه ليصحبها انحراف فى الراى واسترخاء فى الافكار واستفحال فى السلوكيات الخاطئه وتسويق للافكار الهدامه للمجتمع والفرد فهل من الحكمه ان يصمت العقلاء؟
على سبيل المثال حينما افطر ابورقيبه في شهر رمضان امام شعبه على شاشه التلفاز ويدعوهم الى عدم الصيام لانه يقلل الانتاج فما كان من مفتى تونس الشيخ الطاهر بن عاشور ان يعلنها صرخه مدويه اخرست السنتهم الى الابد حيث قال بعد ان تلا ايه الصيام الكريمه صدق الله وكذب ابورقيبه ثلاث مرات فلو التزم الصمت لظن العوام ان سكوته يضفى صبغه شرعيه على ما امر به ابورقيبه
استاذى الفاضل لك خالص الود والاحترام والتقدير والمعذره على المداخله المتاخره

كاتب حرف

الكتابة شعور نطلقه للكون لعل أحد يصطاده ويتذوق جمال حروفه وصدق معانيه وإلا فعند الله مقره وجزاءه الجميل فلا تبخل على الأشجار بالأوراق لأن الشتاء حل ففي لحظات الجمود والبرودة نحتاج لشعاع الشمس ولو من بين الغيوم

شكرا أخي حروفك تبقي الأمل أن هناك رقي الضمير
لا جهاد السطوع على جراح المجتمع

عاطف شرف

بسم الله الرحمن الرحيم وبه نستعين
أما بعد .
نعم يا ابو ليلى قد صدقت في كل ما قلت وصدق أيضا فى حديثك عن المبادئ ولكن يا أستاذي القدير ألا يكفيك انك كنت سببا فى ان تكون نبراسا لشاب فى مطلع حياته قد ذاق من الدنيا مرراتها أكثر من حولها قد وجد الطريق مظلم وكان يتمسك فقط بالأمل الأكل الذي وجده فى كتاب الله عز وجل الأمل الذي كان ببحث عنه فى بلاده الا ان سلم نفسه لمقادرير الله عز وجل حتى غادر من بلاده من أرض ولد بها تربى بها ترعرع فيها وأيضا مقتها لأن تلك المبادئ التي ذكرتها أصبحت شعارات حنجوريه فقط لا أصبحت بلاد أقوال لا أفعال إلا ان شاء العزيز القدير ان تسافر الى ارض أخرى واناس جدد لعل وعسى ابحث عن الامل الذي كنت ابحث عنه مستعينابإيماني بالله و كنت على ثقه ان الله قد اتى بي إلى هنا كي يعلمني شيئ وكنت أعلم إن الأمل اقترب اقترب …حتى وجدت شخصكم الكريم الذي وجدت فيه نورا نعم لا أبالغ نور واى نور هو أفضل من نور العلم النور الذي يفتح العقل ويزيل آثار الجهل .فقد وجدت فى كتابتك الأمل الذي كنت أبحث عنه وجدت الطريق إلى ان ابدأ حياه شجعتني انت عليها وهي كيفية التعبير عن الذات فى وحي الكتابات .نعم لقد قال المولى عز وجل فى نحكم التنزيل وهي ليست مصادفة ان اول ما نزل به أمين الوحي على أشرف المرسلين سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أقرا.نعم القراءة تزيل الظلام وتمحو الآثام التى ولدت من الجهل وبعد هذا كله يا ابو ليلى تخوض مغامرة الصمت أعلم انك وصفتها بالمغامره فمثلك عندما يصمت مغامرة .مغامرة داخل ذاته في ان يحاول جاهدا ان ينتصر على نفسه ويقول لها امتى لا تجعلين اكتب لا تجعلين تحارب وحيدا واى حرب يكون فيها الإنسان هو الجندي والقائد والفارس والقتل والمقتول وحيدا ولكن ألا يكفيك ان تلك الكتابات قد أيقظت ووجهت شاب إلى طريق كان يبحث عنه منذ نعومة أظافره …اطلب منك با تواجه كل مخاوفك وان تطلق العنان لذلك الوحش الذي انت تحبسه وأطلق عنانه كي يكتب ويعبر .اجعله ينير لنا الآفاق ويتكلم ولا يخشى إلا الله رب السموات والأرض

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *