استغلال الأخلاق

خُلق الكرم خلق جليل جبل الله عز وجل الأنبياء عليه، ووعد المنفق كل خير، ومن ذلك قصة أكرم الخلق صلى الله عليه وسلّم عندما رأى صفوان بن أمية و قد كان من أعدى الناس للإسلام ينظر إلى شعب مُلئ شاءً ورعاءً من غنائم حنين، وهو يومئذٍ كان مشركاً فقال له صلى الله عليه و سلم يا أبا وهب يعجبك هذا الشعب ؟ قال نعم، قال صلى الله عليه وسلم هو لك ومافيه، فعرف صفوان أن مثل هذا العطاء لا تطيب له إلا نفس نبي و نطق الشهادة مستدلا على نبوته صلى الله عليه وسلم بكرمه.

وقبل الحديث عن إكرام الضيف وهو المعني من الكرم هنا الأولى أن نشرح معناه، وذلك يتجلى لنا في الآيات التي تتحدث عن ضيوف إبراهيم عليه السلام من سورة الذاريات ﴿ إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ (٢٥) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (٢٦) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ (٢٧) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (٢٨) ﴾.

لما أنكر إبراهيم عليه السلام ضيوفه وعرف أنهم لابد وقد جاؤوا من سفر راغ إلى أهله أي ذهب على وجه السرعة والخفاء فجاء بعجلٍ سمين مكرماً ضيفه حق الكرم من غير إسراف ولا بخل ـ ولو شعر به ضيوفه لمنعوه لأنهم لن يأكلوا على أية حال كما يتضح في الآية اللاحقة ـ و بعد أن قربه لهم ورآهم لا يأكلون خاف منهم، ولكن أضمر الخوف في صدره ثم قال بلين الكلام ألا تأكلون، وكان من تتمة القصة ما كان.

الشاهد من القصة هو حرص إبراهيم عليه السلام على إنزال ضيوفه في الرحب ورفع الكلفة ما استطاع، و ذلك إما في ذهابه إلى أهله في سرعة وخفاء، أو في لين الحديث أو حتى في التغاضي إن بدر من الضيف شيء.

هكذا كان معنى الكرم عند العرب، خلقا فاقوا فيه كل الأمم، و لعل من أسباب ذلك البيئة التي يعيشون فيها، فالعرب لم يعرفوا المدن و التجمعات الكبيرة مثل بغداد والقاهرة و الكوفة إلا بعد الإسلام، بل كانت القبائل منتثرة في الصحراء الشاسعة؛ لذلك وجب التنقل الكثير والدائم لتبادل المنافع و الحاجات، و البيئة الصحراوية القاسية جعلت حتى المسافات القصيرة خطيرة، فكان عدم إكرام ذلك الطارق الظمآن و إيوائه و تركه لمهامه كالحكم بالإعدام عليه، فتجدهم يكرمونه حق الإكرام بكل معاني الكرم التي ذكرناها في قصة إبراهيم عليه السلام، يقول الشاعر العربي:

وإني لـعـبـد الـضـيـف مــا دام نازلا
وما شيمة لي غيرها تشبه العبدا

وقد أكبر العرب خلق الكرم و مدحوا الكرماء و مجدوهم و لم يزل هذا دأبهم إلى اليوم، لكن ظهرت فئة اليوم شوّهت هذا الخلق الكريم طمعاً في المدح و الجاه، فلم نعد ندري هل القرى للضيف أم ليس إلا وليمةً للكاميرات؟ و هل الاستقبال للضيف أم تفاخرٌ لمن يتابع خلف الشاشات؟! حتى بلغوا في التكلف حدًا لا تطيقه نفس، و لم يعرفوا من الترحيب إلا كلمةً تردد، والضيف في ضيقٍ لا يعهد.
 
و لك عزيزي القارئ أن تتخيل حال الضيف وفلاشات الكاميرا تتخطفه من كل جانب، أما عن موجة التفنن في المأكولات و الإسراف فيها بغرض تصويرها؛ فقد كان له رد فعل طبيعي من المجتمع بالإنكار، و مع زيادة اللؤماء في الإصرار؛ انطلقت وانتشرت من بين هذا و ذاك كلمة ( هياط ) فكانت القشة التي أنقذت البخيل من الغرق والإحراج الذي منع الكريم من أن يوصف بالإسراف، بل وصل الحال ببعض الأطفال إلى وصف أي إكرام للضيف بتلك العبارة الرنانة ليجعلنا نسأل أنفسنا أين نحن من هذا الخلق في الأجيال القادمة؟!

إن معنى الإكرام هو لين الكلام و طيب المقام و تقديم الطعام من غير إسرافٍ مشين ولا بخل مهين، وإنزال الضيف في رحبٍ وراحة بلا تكلف يضيّق عليه، فلنربي أبناءنا على ذلك حتى يستشعروا ويتحلوا بهذ الخلق النبيل، ولننبذ كل يحاول تشويهه وتعويض النقص الداخلي فيه باستغلاله بحثاً عن ما ينقصه، مع الحرص على تعليم الأبناء الصحيح من الأخلاق فنبذ الضالين مع عدم إرشاد النشء يجعلهم يخلطون الأمور ويهربون مما ينبذه المجتمع، فيبتعدون كل البعد عن معاني الكرم الحقيقي فالحذر كل الحذر أن يكون مستغل الأخلاق هذا معولاً يهدم في الأخلاق النبيلة.

مقالات سابقة للكاتب

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *