رحيـــــــــل     

القصة الفائزة بالمركز الرابع في مشروع المهارات الأدبية – فرع القصة القصيرة – على مستوى تعليم جدة :

صورته أمامي ، مكتبه خلفي ، تحتي سريره ، بجانبي وسادته ، يحيطني عالمه.. أخرج من الغرفة ثم أنزل من السلالم بتردد ، أراهم يضعون الكراسي استعداداً لاستقبال المعزين ، وبعد أن رتبت الكراسي والمفارش ، بدأ الناس بالقدوم من أجل أن يعزوني ، يأتي أشخاص ويذهب أخرون ، وأنا في حالة صمت ، بحالة أشبه بالجنون أوالنكران ، ذاكرتي هي الوحيدة التي أرادت أن تفيقني من وضعي ، أرادت أن أعيش في الواقع وأن أتقبل الحقائق . 

عقلي يستجمع ، أتذكر اللحظة التي أخبروني فيها عن موته ، وأنا أصلي صلاة الفجر ، فضّلت الصمت بعد تقلي الخبر بعد أن توقعوا أن أنهار.

ذهبت معهم إلى ثلاجة تفوح منها رائحة الرحيل ، رائحة فقدان الأعزاء ، رائحة تطغى على كل وظائف الجسد، تتسلل لتأخذ مكانا من الذاكرة ، كلما أردت أن تنسى تذكرك بوجودها ، تعرفت عليه ، احتضنته لآخر مرة ، قبلته لآخر مرة ، اشتممته لآخر مرة ، لم أصدق أن ذلك الوجه البشوش ، رضي أمه سيرحل .

تهزني ابنتي تنبهني أن زواراً آخرين قد أتوا ، تفيقني من شرودي الذي استمر لوقت ليس بالطويل .

انتهى اليوم الأول ، أصعد إلى الأعلى لأجلس على كنبته المفضلة ، في زاوية من غرفة التلفاز ؛ لعل تقليده

سينشط ذاكرتي التي توقف شريط عرضها بعد أن أتى المعزون .

أتذكّر ملامح وجهه التي لم تختلف في حياته عن موته ، أتذكر تحسسي لنبضه كل بضع دقائق راجية أن يكون حياً ،أتذكر التحامي به مع محاولات من والده بفصلنا، أتذكر خروجي من المكان ذاك وروحي مازالت في الداخل ، تخمد ذاكرتي مرة أخرى ، الهاتف يرن ، لم أجب ، أنظر إلى الساعة ، يا للهول أربع ساعات مضت وأنا أحاول التذكر!! الخادمة أتت وبيدها بعض الطعام الذي وضعته أمامي ، تركتها ودخلت الى غرفته أشتم ما بقي من عطره على الملابس ، أحتضن وسائده التي كانت مخزن أسراره ، أحدثها ، أحدث كتبه وأغراضه ؛ لعلها تخبرني عما كان يدور في باله ، أستلقي على سريره لم أجد الراحة وقتها إلا عليه ، أفيق ، لم أجد صغيري بجانبي ، أذهب لأبحث عنه ،أنادي، أنادي لا أحد يجيب ، إلا الخادمة التي ذكرتني بصوتها النحيل ذي البحة المزعجة :

( مدام ولد أنت في سما عند ربنا ) .

لا أعلم لماذا تقول لي هذا ؛ فأنا أراه الان أمامي على تلك الأريكة يناديني يبتسم لي ، تركتها تتحدث ، وركضت نحوه الى أحضانه ، تركتها وكل من حولي تركتهم وذهبت إليه فقط.

“النهاية”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *