إعاقتي ليست قيداً

القصة الفائزة بالمركز الثالث في مشروع المهارات الأدبية – فرع القصة القصيرة – على مستوى إدارة التعليم بجدة :

مع نسمات الصباح الباردة جلس عمر أمام طاولته المصنوعة من خشب الزان المعتق ، أخذ يراجع أوراق المشروع الجديد، أنهمك في العمل ، تكاثرت الأوراق أمامه ، سقطت بعض القصاصات المندسة في الطرف القاصي للطاولة ، نظر إليها بنهم ، استفرغت ذاكرته على عجل ردّد: تلك القصاصات ،هي بقايا تلك الليلة ، وأي ليلة!

أرخى يده ، فتح الدرج الأول من طاولته ، التقط الصورة الفوتوغرافية اليتيمة التي توثق بداية طريق التحدي.. بداية لا المستحيل في طريق الطموح.

تساحبتهُ الذكريات إلى أن وصل لتلك الليلة التي اكتمل فيها القمر ، حيث كانت عائلته مجتمعة في الحديقة ، يتداورون الحديث فيما بينهم.

نظر عمر للقمر, ثم خرج حلمه كالميسم: لو أصبحت رجل أعمال معروف شهيرًا كشهرة القمر…!

قاطعهُ أخوه بجملتين كالرصاص المسموم: أنت معاق ، أنت مجرد عالة على أبي!

استقرت كلمات أخيه في قلبه ، لم تشفع معها نظرات الشفقة من والدته ، ولا قطعه القماش التي لفّها والده على عجل بكلماته الحازمة تجاه أخيه.

صنع ذلك الموقف حكمة كشجرة البلوط في رأس عمر ” السخرية والشفقة وجهان لعملة واحدة”

حمل عمر وقتها جسده الهزيل ، زحف بمقعده المدولب شاكيًا للقمر آماله البعيدة ، بينما أخوه من الخلف يردد بصوت ساخر: أنتم تكرهون قول الحق ، حقًا عائلة غريبة!

لقد عاش عمر وأخوه حازم في نفس الحجرة لأعوام عديدة إلا أن الفارق بينهما كان كبيرًا جدًا، فعمر طفل طموح ، في حين أن حازما يستغرق يومه في العبث واللهو.

يتذكر ذلك اليوم الكبيس عندما أختبأ حازم تحت الفراش مدعيًا المرض ، بينما حمل هو حقيبته مسرعًا للحاق بالمدرسة ، يتذكّر تلك اللحظات عندما انحرفت أحد المركبات تجاه رصيف المشاة ، فدهسته ، لم يشعر بشيء مطلقًا ، حتى أفاق في المستشفى ، كانت إحدى قدميه وكفه قد اختفتا إلى الأبد.

مر عام كامل أمضاه عمر بين ردهات المستشفى وحوائط المنزل الإسمنتية ، تفحّص كل إنش في جسده ، لقد كان الهاتف من داخل عمر يهتف بشده ألا يعيش في جحر الخوف ، أو زوايا الألم ، وأن يرنو بنفسه كالقمر عن الجميع فيتلألأ في سمائهم.

لقد عاد بعد تلك الليلة إلى دراسته أكثر نشاطًا ومثابرة ، أنتقل من صف إلى آخر ، حاصدًا أعلى الدرجات ، حاثًا نفسه على التفوق ، مُمنيًا نفسه بأن يصبح مُهندسًا مشهورًا.

أما حازم فقد استمر في غيّه القديم ، فلا غرابة أن يكون تحصيله الدراسي دون المستوى.

يتذكر عمر الأيام التي رفضته الكليات الجامعية بسبب حالته الصحية ، وإصراره على النجاح مهما كلّف الأمر .. 

واضعًا نصب عينيه الحكمة: ” ليس هناك شخص معاق وإنما مجتمع يعيق”… ومرددًا بشكل مستمر:

 لست أنا عجينة صلصال يشكلها المحبطون كما يتوهمون.

قُبل أخيرًا في جامعة المدينة ، في أحد أقسام التجارة الناشئة .. دخل القسم غير مكترث لنظرات الشفقة من الجميع.

مرت الأعوام ، يتذكر أعوامه وممارسته التجارة ، ونجاحه فيها بعزيمته وإصراره رغم إعاقته الجسدية.

في خضم هذه الذكريات الكثيرة ، أحدهم يقطع خلوته ، بطرقات متقطعة على الباب..

تسلل إلى أذنه صوت طفولي: أأدخل؟

عمر: نعم تفضل بالدخول.

يطل ابنه سلطان ذو الخمسة أعوام ، من خلف الباب ، يجري ليرتمي في حضنه..

سلطان: ماذا تفعل يا أبي؟ ومن هذا الجالس بجوارك في الصورة التي بين يديك؟

عمر: أنه عمك حازم ، ما رأيك أن نزوره غدًا؟

في اليوم التالي اصطحب عمر ابنه إلى منزل أخيه حازم ، وهو يدعو الله ألا يرده كعادته ، طرق الباب وإذا بحازم يفتح الباب ، وقد تغير حاله إلى الأسوأ.

تبادلا النظرات ، بينما ابنه سلطان بالأسفل ينظر إليهما..

لحظات ثم أنهار حازم ، وأخذ بتقبيل ابنه ، والارتماء في حضنه.

عمر: أخي حازم لقد أتيت لنعيد ما انكسر في الماضي ونصلح علاقتنا.

حازم: لقد كنت أفضل مني في كل يوم ، كم أشعر أني صغير أمامك.. أمام أرادتك وعزيمتك وإصرارك على النجاح.

“النهاية”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *