الليلة الدامية

القصة الفائزة بالمركز الأول في مشروع المهارات الأدبية – فرع القصة القصيرة – على مستوى إدارة تعليم جدة ، والحائزة على الميدالية الذهبية والمركز الثالث على المستوى الوطني.

 الليلة الدامية     

تحت جنح الظلام وفي ليلية صيفية تلطفها هبات هواء خفيفة ، من مروحة تُصدر أزيزاً خافتاً ؛ اضطجعتُ على سريري ، وألقيتُ برأسي على وسادتي.. وما هي إلا لحظات حتى شعرت بشيء غريب يتسلل إلى صدري ، ويطبق على أنفاسي ..أغمضت عينيّ …لتتزاحم الصور والأحداث ، فحدجت إلى مدينتي الجريحة ، التي توشحت رائحة الموت منذ عامين، وتعالت في سمائها أصوات الصرخات والآهات والقصف المُتقطع مازال ينحر الشقق العالية.. بينما أصوات السكان الهزيلة لم يعد لها طعم. 

نزلت أسفل البناية باحثًا عن مدينتي القديمة ، وبينما كنت أتجوّل هنا وهناك هالني منظر الشوارع المدمرة ، وأكوام الحديد المحترق التي ملأت الأرصفة.

مازالت تغزو مسامعي صرخات النساء والأطفال ، وبكاؤهم ينكأ الدم في قلبي… مثل ذلك البركان الثائر الذي ينتزعني من داخلي كي يثور!

على امتداد الشارع المقابل  لمنزلنا ، لا شيء  سوى الدمار .. الدماء ..الجثث هنا وهناك!

تقدمت بخُطى متثاقلة ، بيد أني مازلت عاجزًا من جديد أمام صور نزفت منها دمًا !

اللون الأحمر هو العنوان الأبرز لشوارعنا  خلف هذا الركام الرهيب!

لم يبق صامدًا سوى قليل من جدران الحي, تأبى الخضوع وتصر على المقاومة  !

وفي آخر الشارع الجانبي كنت أرى سيدة خلف حطام منزلها جعلتني أسال نفسي: لم لا تحتمي من القصف؟ 

لم لا تهرب  بعيداً ؟ إلى أن رأيت صغارها البائسين ، يبحثون بين الحطام عن أبيهم المفقود! 

لقد كانوا يبحثون عن يتمهم القادم! يبحثون عن صدر حنون بين هذا الحطام يختبئون داخله ، يبحثون عن  ذراع تؤويهم ، وتأخذهم بعيدا ، بينما والدتهم المسكينة ، لا تدري هل تواسيهم أم تواسي روحها الممزقة؟ 

أخذت أفتش معهم بين الحطام ، بينما أتأمل ملامحهم  الممزوجة بصرخات الجزع والانهيار ، رأيت والدتهم تضم رضيعها الأصغر ، وتوهم نفسها بأنها  تتحدث مع زوجها الذي قضت عليه الحرب وانتزعته من بينهم ، في حين أن أطفالها يواصلون البحث عن أبيهم!

تركتهم…والكلمات كالحجارة تخنقني! مكثت طويلًا أتحسس الألم في  جسدي ، أمام قلوب احترقت وتجرعت قسوة الحرب ،ومزقتها  الخطوب ، جلست على الرصيف المحطم ، وأثار الدماء قد خطت أحزاننا  بحبر لن يجف أبداً.. 

سألت نفسي: إلى متى تستمر هذه الحرب الظالمة؟دمرت ومزقت وحطمت قلوبًا فلا دواء الآن يشفيها ولا شفاء لها.

فجأة سمعت أنين صوت خافت من خلفي ؛ فإذا به شيخ كبير يشاركني المكان ، أخذ يتقدم نحوي مُستندًا على عصاه و كأن الحرب رمت بكل بؤسها على عاتقيه! 

بادرته بالحديث وفي كلماتي حزن شديد: هي جراحنا التي ما زلت تنزف منذ أن كنت طفلًا صغيراً!    

فأجابني بصوت خفيض: نعم يا ولدي.. بدأت هذه الحرب منذ زمن بعيد ، لقد دمرت مدينتنا التي طالما أحببتها ، وأحببت بزوغ شمسها الدافئة ، ورائحتها المليئة بعبق الذكريات الجميلة .

سألته: لقد هاجر الكثير عنها ، لماذا بقيت هنا ؟  

أجابني والحسرة تخنقه: هي مدينتي وملاذي فكيف أهجرها؟ وكيف أتنفس غير هوائها؟ وكيف ألوذ بغير حماها؟

وإن ماتت روحي فلن أرضى أن يغطيني تراب سواها!

وبينما نحن نتحدث داهمتنا غارة صاروخية أخرى ؛ صرخت  بفزع… وأنا أراه مُمددا في بركة من الدماء.

استلقيت بجواره مستسلما ، ودوى الأصوات المخيفة تبتلع المدينة ومن عليها. 

أخذت أصرخ وأستنجد لعل هناك من يساعدني ، ولكن صوتي أخذ يخفت رويدًا رويدًا.. شعرت بغيمة بيضاء تصافح جسدي المنهك! فجأة أنسكب كوب الماء ، وأحدث صوتا عالياً .

نهضت بفزع ، وأنا أمسك رأسي بكلتي يدي ، وصوت أنفاسي كاد أن يفجر المكان!

 أتلفت يمينا وشمالا ، عندها نظرت إلى  معصمي المنهك ، بالكاد تبدو ساعتي السوداء عقربها الأصغر يشير إلى الساعة الرابعة والنصف..

بقيت في سريري أفكر في هذا الكابوس المريع ، حتى انساب إلى مسامعي صوت انتزعني حتى من نفسي.. 

إنه صوت أذان الفجر معلنا ًميلاد يوم جديد ، ورؤية جديدة في بلاد أحكم رُبانها مِجدافها ؛ فقادها إلى شاطئ الأمان

 بفضل من الله وتوفيقه ، رغم لأعاصير والتحديات.

أيقنت بعدها أنه مهما تكالبت عليك الخطوب وحاصرتك المآسي ، وإن ماتت روحك وانطفأ ضياؤها لا تضيق أبداً ..

في بلاد تعيش بين دعاء تحقق ، وحزم استقر في عقولنا ؛ فأشرقت به ظلمة أفكارنا ، وسكنت الأرواح تحت مظلة الأمن والأمان ، في زمن الكل  يبحث عن  ذرات رمل لتكون له وطناً.

                            دمت سالماً يا وطني

“النهاية”

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *