كنا قبائل وبطون شتى ، ونقاط “مجهرية” تسمى مدناً تتناثر على بحار الجزيرة العربية وبراريها ، تثور الحروب والثارات لمرعى اختلف على رعيه ، وماءٍ من الندرة بمكان ، حيث يشعل ثقاب العصبية الحرب بين مرتاديه من أصحاب الماشية.
وبلطجة فتوات الحارة حيث البقاء فيها للأقوى والأقوى فحسب ، إذا وجدت وجبة طعام واحدة فيعده أهل ذلك الزمن ترفاً يحسد عليه صاحبه ، وغالبهم يتوسد التراب ويلتحف السماء إلا من بعض قطع القماش من بقايا أكياس مهترئة لا تكاد تغطي عورة أحدهم!
المسافر إلى خارج مدينته أو قريته كالمقدم على مهلكة مؤكدة تمضي به الشهور وربما السنوات لا يكاد يسمع أو يرى له أثر ، حالة من الرعب واختلال الأمن لا يعيها أو يصدق بها إلا من اكتوى بنارها وبقى إلى زمننا يروي لنا جانباً منها.
مسهم الجوع وسافروا في الجهات الأربع بحثاً عن لقمة العيش ، وعانوا الأمرين ألم الفاقة وألم الغربة.
ثم قيض الله لهذه البلاد رجلاً مقداماً وشجاعاً استطاع أن يجمع شتات هذه البلاد ويوحدها ، فأرسى بقدرته تعالى أركان الأمن وقضى على الفوضى الضاربة الأطناب على هدى من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ذلك هو الملك عبدالعزيز عليه شآبيب الرحمة.
من هنا بدأت الحكاية ، حيث أفاض الله علينا نعمه الظاهرة والباطنة وأصبح يجلب إلينا خيرات من كل مكان على وجه المعمورة ، نعم تترى ، ورب غفور ، ولأن بقاء الحال من المحال ، أصبح البعض(وما أكثرهم) يخترع المناسبات ، لتقام حفلات البذخ والإسراف ، وذبح الأنعام بلا حساب ولا عدد ( أهم شيء لا يجي نقص ونتشره مع الناس ونسوا رب الناس ) ، واخترع آخرون مناسبات لنثر أكياس الهيل في المجلس بطراً للنعمة ومجلبة للنقمة ، ورمى آخر بـ(رزم) الريالات غذاءً للبهائم ، وغسل أقوام أيديهم بدهن العود.
ولأن الجزاء من جنس العمل فالشكر هو قيد النعمة ، والكفر هو الذي سيطردها ، والله غيور على نعمه ، ولننظر في أثر كفران النعم علينا في مظاهر التعصب القبلي والمناطقي الذي بدأ من فترة ليست بالقصيرة ، فالكل يرى في نفسه وقبيلته وعائلته ومنطقته أنهم محور الكون والباقون هامش لا يؤبه له ، أنظروا لقنوات الشعر ومزايين الإبل ، وبعض الصحف الالكترونية التي تسمت بأسماء المناطق والقبائل والعوائل ، فهي تتمركز بشدة حول ذاتها الضيقة ، حتى أصبحنا نتشظى إلى تكتلات اجتماعية متناهية الصغر ( بعكس ما يجري من حولنا حيث تتوحد الأمم في كيانات ضخمة يحسب لها ألف حساب )!!
وأتعجب أشد العجب ممن يعنيهم الأمر حيث السكوت المطبق ، وصمت القبور عن هذه المزالق التي يجرنا لها كفران النعمة والبحث عن أمجاد وهمية في تسابق سخيف للبذخ والإسراف ، وعنصرية مقيتة ، ودعوى جاهلية تجلب علينا سخط الجبار سبحانه.
قليل من الوعي والحكمة ، فنحن لا زلنا نحبو ونتلمس طريقنا لنكون أمة تقود الأمم كما كان سلفنا الصالح ، ولن نكون كذلك إلا إذا سلكنا نفس الطريق الذي سلكوه ، ليأخذ العقلاء على أيدي السفهاء ، وإلا فالعقوبة إذا حلت ستأخذ الصالح والطالح … والله المستعان .
محمد بن سعيد الصحفي / الكلية التقنية بجدة
مقالات سابقة للكاتب